فى الوقت الذي يستمتع فيه مُستخدمي الأيفــون بأجهزتهم الأنيقــة الراقيــة ، ويهتمــون بالتطبيقــات والمميــزات الفنية للجهاز .. وملمسه .. وتصميمه .. وشكله .. وكافة تفاصيــله المتعددة ..
في نفس الوقت .. يعــاني العمَّــال الذين يعملــون فى المصنع الذي يُنتــج هذا الجهــاز الأمــرَّين .. وقد يصل بهم الأمـــر إلى محــاولة الإنتحـــار للتخلص من الحيــاة وضغوطها وأيفــونها وأجهزتها ومالها وماعليــها !!
قــوى عاملة هائلة وإنتــاجية ضخمة
فوكســكون .. المصنــع الصيني العملاق الذي يصنِّع لك هذا الجهــاز الأنيق المميــز الذي تصممه أبــل ، وتعاقدت مع الشــركة الصينية لتصنيــعه بأعداد ضخمة هائلة ، تكفــي لتوريــد جهازها المميـــز إلى كافة أنحاء العالم ، بلا إبطــاء أو تأخــر فى تسليم الطلبــات..
المصنع يقوم بإنتاج وتصنيع العديد من الجوالات والأجهزة اللوحية لأكبــر الشــركات .. إلا أن المصنع معــروف بشكل عالمي أنه المُصنِّع الرئيسي لمنتجــات أبل .. حيث يقوم بتصنيــع مايقارب 90 جهــاز أيفــون فى الدقيقة الواحدة .. وحوالي 130 ألف جهــاز ذكي متنوع فى اليوم الواحد ..
تســأل عن الطاقة الهائلة لهذا المصنع الذي تمكِّنــه من إنتاج هذا العدد الضخم من الهواتف ؟ .. يكفي أن تعرف أن المصنع يضم 400 ألف عامل وعاملة يعملــون به بشكل يومي .. أي يفوق تعداد العاملين به تعداد بعض الدول الصغيـــرة !!
في السنــوات الأخيــرة ، ظهــر المصنع الصيني بشكل كبيــر فى الإعــلام بصورة إيجابية جداً ، بإعتبار أنه المصنع العمــلاق الذي لا تتوقف آلاته عن الدوران ، وتطبيــق معاييــر الجودة الصارمة التى وضعتها التفــاحة الامريكية لمنتجــاتها .. إلا أنه ، وبمــرور الوقت بدأت هذه الصــورة الإيجابية فى الإهتزاز بشدة ، وحل محلها صورة قاتمة سلبيـــة شنيعة..
ففي خلال هذه الأعــوام ، تم الكشف عن إنتحــار عدد كبير من العُمــال فى المصنــع ، كانت ( تيــان يو Tian Yu ) أحد الناجين ، بعد أن قامت فى مــارس 2010 ، بإلقــاء نفسها من الطــابق الرابع ..
ولحســن الحظ أنها لم تمت .. فقط دخلت فى غيبوبة طويلة إستمــرت 12 يومــاً ، استيقظت منها لتجد أنها مُصــابة بالشــلل ..
ولتجد الفــرصة كي تحكي مُعاناتها مع الشــركة الصينية ..
***************************
بدأت قصة ( تيان ) عندما كانت فى السابعة عشــر من عمرها ، تسمع وتنبهــر بالمصنع العملاق فى بلادها ، الذي يقوم بتصنيــع عدد هائل من الهواتف التى تصممها أكبــر وأعظم شــركة تقنية فى العالم ( أبل ) .. وكانت تعتقد – مثل الملايين من الشباب والمراهقين الصينيين فى مثل سنها الصغير – أن الحصول على وظيفة فى هذا المصنع هو بداية مميــزة جداً لحياة وظيفية رائعة ..
لذلك ، فقد توجهت فى فبــراير من العام 2010 من قــريتها الصغيــرة فى وسط الصين ، إلى ( Longhua ) حيث يقع المصنــع العملاق ، على بعد مئات الكيلومترات من قــريتها ..
والحقيقة أن البداية كانت مبشــرة جداً ، حيث حصلت بمجرد وصولها إلى المصنع على دليل أنيق للعاملين ، ملئ بالصــور الجذابة التى تعد العامل الجديد فى المصنع بحياة وظيفية رائعة .. فضــلاً عن الكثير جداً من الإبتسامات المُشــرقة إستقبلها بها المُدراء فى المصنــع ..
بعد أن وصلت ( تيــان ) برفقة مئات العمــال الفقــراء القادمين من القرى الصينية البسيطة المُجــاورة ، فوجئت بأن المصنــع يخصص لهم غرف نوم صغيــرة جداً غير آدمية إطلاقا ، من المفترض أن يعيشــوا بها ويحصلون فيها على بعض الــراحة ..
المفاجأة الثانيــة أن غرفة النوم الصغيــرة هذه ليست لفــرد واحد ، وأن العاملين والعاملات المفتــرض أن ينــاموا سوياً – أو قل : يتكدسوا فوق بعضهم البعض – فى نفس الغــرفة ..
وبمــرور الأيام ، تلاشت الإبتســامات التى كان يوزعها المُدراء والعاملين فى المصنع ، ليحل محلها وجوه عابسة غاضبة .. فى صبــاح كل يوم جديد ، يســأل المديــر عدد كبيــر من العمــال الذين سيبدأون العمل فى بـرود :
كيف تشعـــرون اليوم ؟!
فيجيب العُمــال جميعاً – على حسب قصة تيــان نفسها – أنهم جميــعاً بخيـــر .. خوفاً من طردهم وقطع رزقهم طبعــاً ..
ثم تبـــدأ المأســـاة الحقيقيـــة ..
12 ســاعة يوميــاً من العمل الطويل المُرهق الذي لا ينتهي أبداً ، والذي يستمــر فى أغلب الأوقات لما بعد الـ 12 ساعة .. غالباً أيضاً لا يوجد استراحات غداء ، ويتم تخطيها لساعات عمل إضافية .. إلى جانب أن الذهاب إلى الحمــام يحتــاج إلى تحديد بشكــل مُسبق !
ماذا بالنسبة لأيام العمل نفسها والإجــازات ؟!.. العمل لمدة 6 أيام أسبــوعياً .. إلا أنه فى الشهــر الأول يجب العمل لمدة 14 يوماً بشكل متواصل بلا إجازات نهائيــاً.. وورديــات العمل يتم تبادلها بين الليل والنهار ..
لذلك لم تكن الفتاة الصغيرة – تيــان يو – تفعل شيئــاً بعد الإنتهاء من العمـــل سوى الحصــول على نوم طويل فى هذه الغــرفة البائسة ..
***********************
شهــر واحد فقط يكفــى للإنتحــار !
وأخيــراً ، مــر شهــر فبراير / شبــاط – الذي بدأت فيه ( تيــان ) العمــل – طويلاً ثقيلاً مُرهقاً بشعاً .. وحكَت فيما بعد تقول أنها كانت تشعر بشعور بشع جدا .. فهي بعيدة عن المنــزل وتمــارس عملاً مُهلكاً ، ويستحيل عليها التعرف على أصدقاء جدد .. ويستحيل عليها أن تحصل على قدر كاف من النـــوم على الأقل ..
إلى أن جــاءت الضــربة القاصمة ، ولحظة الإنفجــار ..
عندما ذهبت الفتــاة المسكينة لتسلم راتبها للشهــر الأول ، أخبــروها أنه سيتم تأجيــل الراتب إلى الشهــر المُقبــل بسبب مُشكلة إدارية .. وعندما سألت عن الراتب نفسه أخبــروها أنه يعادل 160 يورو فقط..
أي تقــريباً ربع تكلفــة جهاز أيفـــون واحد فقط !
عند هذا الحد ، لم يكن منها سوى أن توجهت بهدوء إلى غــرفتها البائسة فى الطابق الرابع ، وألقت نفسها من النافذة ، ليتحطم جســدها الصغيـــر وتُصــاب بشلل طوال حياتها..
مالم تكن تعرفه هذه المسكينة الصغيرة الرقيقة ، أنه فى نفس المصنــع .. وفي نفس العـــام .. حدثت 18 محــاولة إنتحـــار أخـــرى ، مات جميعهم ولم ينجُ ســوى ثلاثة فقط .. هي واحدة منهم !
أعتقــد أنها لو كانت تعــرف هذه الحقيقة مُسبقاً ، لم تكن لتفكــر مجرد تفكيــر أن تغادر قريتها البسيطــة ، إلى هذا المكــان القـاتل !
********************
كيــف عــرفنا كل هذه الحقــائق ؟!
الحقيقة أنه ، وبعد تسجيــل كل هذه الحالات من الإنتحــار ، وإنتشــار هذه الاخبــار بشكل كبيــر فى العالم .. قامت شــركة أبل الأمريكية بوضع معايـير صارمة لمراقبة أوضاع مُزوٍّديها بالخدمــات ، وعلى رأسهم مصنع فوكسـكون .. وقامت فعلاً بإرسال عدة مفتشين إلى الصين ، الذين أكدوا أن بيئة العمل مأساوية فعلاً ، وتدعو إلى الإنتحـــار بالمعنى الحقيقي ، وليس بالمعنى المجــازى..
ولكن ، وخلال جولات التفتيش لم يتم السمــاح للعمــال بأن يتحدثوا للمفتشيــن عما يحدث داخل المصنع ، وعن المعاملة وطبيعة العمل التى يتلقّونها .. لذلك ، قــررت طالبة دكتــوراة بريطانية تُدعى ( جيني شان ) تعمل فى إحدى منظمــات حقوق الإنســان ، أن تستقصى الموضوع بنفسها .. وقامت بإجــراء مقابلات عديدة مع ( تيــان ) تحديداً الناجيــة من الإنتحــار ..
وقامت بنشـــر كل مقابلاتها فى مقــال شهيــر نُشــر فى كل مكــان بعنوان :
( ناجيــة من الإنتحار : قصة حيــاة عاملة صينيــة )
*************************
لا يوجد لدي شيئ آخر أضيفه .. أناس يعملــون كالعبيــد طوال الشهر ليحصلوا على أجــر يقل عن ربع تكلفة المُنتج المميـز العالمي الذي يصنعونه .. وأناس آخرون يشتــرون هذا المُنتج ( الأيفون ) أحيـاناً مُرصَّع بالذهب ..
القصص المأســاوية للعمـال ليست فى عالمنا العــربي فقط كما تــرى !
تعليقات
إرسال تعليق